خصائص الأدب الإسلامي :
للأدب الإسلامي صفات بارزة، ومعالم واضحة يمتاز بها عمّا سواه من المذاهب الأدبية، وكلها مأخوذة من الإسلام ذاته، منتزعة منه لا من خارجه؛ لأنها هي التي تعطيه حق الانتساب إلى الإسلام، وتجيز انتماءه إليه، ومن هنا تصحّ تسميته بالأدب الإسلامي ... وهذه الخصائص كثيرة، نتناول أهمها فيما يلي من حديث :
أولاً : الالتزام العقديّ والخلقيّ :
لعل أولى خصائص الأدب الإسلامي هي أنه أدب ملتزم، وكل ما سوى هذه الصفة، فهو منبثق منها، متفرع عليها .
ثانياً : الغائبة والجدّية الهادفة :
إن الأدب الإسلامي له هدف وغاية مقصودة من ورائه، وهذه حقيقة منبثقة عن حقيقة إسلامية كبيرة هي : أن الفرد المسلم ينزّه نفسه عن أن يحدث عملاً ما من الأعمال، أو يقول قولاً ما من الأقوال ليس من ورائه غاية جادّة ، أو يتلفظ بلفظ دون أن ينظر مسبَّقًا إلى عواقبه ونتائجه، ومدى العائد عليه منه، أو هو عائد على الآخرين .
إنه يترفع أن يأتي هذا العبث المضيّع للوقت المحسوب، وأن يهدر طاقته الخلاّقة ، أو أن يضيع أوقات الآخرين من عباد الله ، ويبدد طاقتهم فيما لا خير فيه !..
ثالثاً : الشمول والتكامل :
ينظر الإسلام للنفس نظرة شاملة متكاملة باعتبار الإنسان جسدًا وروحاً معاً ، ويأخذه أخذاً شاملاً متكاملاً بكلّ ما فيه من كل جوانبه وزواياه؛ ليحدث فيه التوازن والانسجام فالسلام . وليباعد بينه وبين الصراع والتناقض .
وهو لاينظر إلى الجانب المادّي وحده بمعزل عن الروح ، فيترتب على هذا طغيان الصراعات الاقتصادية وبروزها حتى لتصير كأنها هي جوهر الحياة الإنسانية وحقيقتها ، وأنها هي المحــرك والدافع الأصيل للسلوك البشري ، وتهمل بإزاء ذلك القيم الأخرى : معنوية وروحية وأشواقًا إنسانية عليا !..
رابعًا : الواقعية :
ولا نريد بالواقعية هنا الواقعية المتعارف عليها في المذاهب الفنية الغربية ، التي تحصر واقع الإنسان في حيّز ضيّق محدود ، وتنسى الواقع الإنساني الكبير الذي يشمل حياة الإنسان كلها طولاً وعرضًا وعمقًا ، وزمانًا ومكانًا .
الأدب الإسلامي في واقعيته يرسم ما في الفرد من نقائص وعيوب وضعف وخسّة وهبوط؛ ولكن على أساس أنها شرُّ ، وعلى أنها نقائص ، لا على أساس أنها واقع وضربة لازب لا محيد عنها ، ولا أمل في الفكاك منها ، أو الارتفاع عليها .
خامسًا : الإيجابية والحيوية المتطورة :
الخصيصة الخامسة للأدب الإسلامي ، وهي مشتقة ، من الإسلام ذاته كأخواتها المتقدمات كما أسلفنا ، هي الإيجابية والحيوية المتطورة ، لا السلبية المستسلمة ؛ فالإسلام يعترف أن في الإنسان ضعفًا يجرّه إلى السقوط والانزلاق ومقارفة الآثام والمُنكَرات، ويدفعه إلى هوّة الدنايا والانحطاط ، أو يمسك به عن إتيان العظائم : "وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيْفًا"(36) .
ومن هنا تتبين لنا الحقائق التالية :
إن الأدب الإسلامي الذي نعنيه، ويدعو الداعون الناسَ إليه، هو ذلك اللون من الأدب الذي يحمل عاطفة أو نزعة إسلامية، ويعبّر ويدل على مفهوم فكري إسلامي، أو يدعو إليه .. وبهذا، فالذي يُميّز الأدبَ الإسلاميَ عن غيره من ألوان الأدب ومذاهب فن القول محليًا وعالميًا ، هو الدلالة والمحتوى ، وليس الصورة أو الشكل أو القالب ، أو اللغة التي قيل بها – وإن كانت العربيةُ هي لغتَه الأُولى والأَولى – ولا كذلك العصر الذي قيل فيه ، ولا الموقع والمكان ، ولا الظرف السياسي الذي أظلّه .
ليصير الأدب إسلاميًا ، ليس ضروريًا أن يكون دعاءً وتسبيحًا وتحميدًا واستغفارًا وابتهالاً.. وذكرًا لأنعُم الله وآلائه .. وليس ضروريًا – كذلك – أن يكون مدحًا للرسول (صلى الله عليه وسلم) , وتسجيلاً لانتصاراته وصفاته وشمائله، أو يكون إطراء ومدحًا لأصحابه الغُرّ الميامين ، وتغنّيًا بأمجاد الإسلام والمسلمين ، وإشادة ببطولاتهم وتاريخهم الماجد النبيل !..
ليس هذا وحده هو الأدب الإسلامي .. فهذا جزء من كل ... الأدب الإسلامي بحسب ما قدمناه أوسع من ذلك بكثير؛ إذ قد نجد نصًّا أدبيًا ليس فيه شيء مما قدّمنا من تلك الأمور بتّة، ونجده مع هذا أدخلَ في باب الأدب الإسلامي، وأكثرَ لصوقًا به من غيره؛ لأنه أكثر تعبيرًا عن "امتلاء النفس بالمشاعر الإسلامية" الحية الدافقة، وأدعى إلى إيقاظ نوازع الخير والطهر والجمال التي جاء الإسلام لإشاعتها في الكون ، وبسطها في العالمين...!(37)
منهاج الله قرآنًا وسنةً ، والواقع البشري الذي تمّر به الدعوةُ :
إن من مظاهر واقِعِنا اليوم أن الشعوب كلها أخذت بالنهج والتخطيط حتى أصبح علمًا قائمًا بذاته في كل ميدان من الميادين . والدعوة الإسلامية أحرى أن تنهض لهذا الأمر ليكون سببًا من أسباب قوتها ، ورباطاً من روابطها .
ولا يستطيع الأدب الإسلام نثرًا، أن ينعـزل عن سائر ميادين الإسلام . إنه مرتبط بها متصل معها، يُغذِّيها وتُغذّيه ، ويُنميها وتُنميه . وبدون هذا الارتباط والاتصال بين جميع الميادين من خلال النهج والتخطيط، سيفقد الأدبُ الإسلامي كثيرًا من خصائصه ، وقُوىً من قواه .
إنه ينعزل بذلك عن الواقع الذي يعيشه ، وينعزل عن تربيته الحقيقية وغذائه الحقيقي . وهذا الارتباط لا يتم إلا من نهج موَحّد ، وخطة واحدة، دفعتْها المواهب ، ورسمها العلم ، وأرسى قواعدَها الإيمانُ .
فميدان الدعوة والانطلاق ، وميدان التربية والبناء، وميدان الدراسات والتخصّص، وميدان الاجتماع ، وميدان الجهاد، وميدان الاقتصاد، لو عمل كلُ ميدان وحدَه منعزلاً مفصولاً لفقد كلُ ميدان خصائصه، وخسرت الدعوةُ الإسلامية الكثير الكثير من مقوماتها، وفقدت النصرَ في كثير من جولاتها .
إن هذه القضية نراها هامة وخطيرة نطرحها أمام كل موهبة ، وأمام كل مؤمن، لتأخذ دورَها الحقيقي، وليتضح لنا أن الأدب الإسلامي ليس ميدانًا معزولاً . عند ذلك يصبح الأدب الإسلامي قوة حقيقية من قوى الإسلام ، مرتبطاً بعقيدة، مغروسًا في تربة ، ناميًا في أجواء، يعطي ويأخذ، ينمو ويتطور، ويمضي إلى أهدافه. عند ذلك يحمل خصائصه الإيمانية في ممارسة إيمانية واعية وعمل صالح مبارك إن شاء الله .
عند ذلك ينمو الأدب الإسلامي ويمضي ؛ ليكون أدب الإنسان ، وحاجة الإنسان، وليكون للناس كافةً والأجيال كلها . ينمو نموًا مطّردًا يُعالج قضية الجماعة ، وقضية الأمة ، وقضية الإنسان ، تاريخًا وقصة ورواية، شعرًا أو نثرًا .
إن الأدب الإسلامي اليوم لن يتنزل من السماء، ولن تنشقّ الأرضُ فتدفعه . إنه اليوم جهد بشري، ومعاناة بشرية، إنه بحاجة إلى الموهبة والجهد والبذل . إنه لا ينهض في قوم غافلين ، ممَزّقين ، تائهين . ولن ينهض مع رايات لا تجد لها رصيدًا أمينًا في الواقع . لقد كان مرة وحيًا يتنزل من عند الله على محمد (صلى الله عليه وسلم) قرآنًا وسنة ، ليكون أدبُ الإنسانية في أعظم صوره المعجزة ، التي لايبلغها الجهد البشري ؛ ولكن الجهد البشري يستهدي بها.
هذا الجهد البشري تبذله الطاقة البشرية بمقدار ما تحمل من خصائصها الإيمانية ، وبمقدار ما تحمل من الموهبة، وبمقدار ما تجد الموهبة من رعاية وتوجيه .
إن الأدب الإسلامي اليوم لا يستطيع أن ينهض به إلا الجيل المؤمن المتميز، يصنعه منهاج الله – قرآنًا وسنة – وتصلقه الممارسة ، ليمضي في واقع لا في خيال ، وفي بذل لا في شعارات وروايات .
من هنا كان دراسة الأدب الإسلامي ضرورة من ضرورات الدعوة والإيمان ، وحاجة من حاجات الوثبة والجهاد ، على أن يكون ذلك كله على نهج مدروس ، وخط مُشرق ، وعمل مترابط، وكذلك على أن يكون عملاً طاهرًا نقيًا خاليًا من عجاج الفتن ، وقتام التناجش ، وسواد التحاسد، وحسرات التنافس . إنه عمل من أعمال الدعوة الإسلامية ، وليس من أبواب الأدب فحسب . إنه عدة من عدد الإسلام وقوة من قواه .
لذلك فإننا نعتبر هذه الدراسة ليست دراسة أدبية منعزلة عن جذورها ؛ ولكنها في الوقت نفسه دراسة دعوة ، وبحث جهاد ، وجمع عدة .
والأدب الإسلامي يُرسي قواعدَه الإسلامُ، ولا يرسيها هوى بشر، ولا رغبة متاع، ولا نزوة طامع. شتان بين أدب يقوم على قواعد تُرسيها العقيدة ، ويُرسيها الوحي المتنزل من عند الله، وتُرسيها النبوة والبلاغ والبيان، وبين أدب يخرج من تجارب محدودة وتصورات مكدودة، لتضع قواعد من عندها، تفرضها على الناس على أنها حق. ثم يأتي آخرون ينقضون هذا الذي زعم غيرهم أنه حق، فيزعمون زعمًا جديدًا، ويطرحون وهمًا جديدًا، ثم ينهض غيرهم ليزعم كما زعموا، وتمضي القافلة في جهود متضاربة متناقضة، لا تكاد تمسك بينها بشعاع من نور.
إن الأدب الإسلامي قواعده عقيدةُ الإسلام والوحي المتنزل. من هناك نصدُر أولاً من الإسلام: من القرآن والسنة، لنتلمس قواعد الأدب الإسلامي. إن المهمة ليست مهمةَ أديب فحسب، إنها مهمة المسلم المؤمن الداعية أولاً، ثم هي مهمة الموهبة المتفتحة . إنها مهمة الموهبة التي ترعاها العقيدة، ويصوغها الإيمان : الموهبة التي أسلمت لربّ العالمين . إنها مهمة أمة كذلك(38).
إن الأدب الإسلامي الذي نتحدث عنه اليوم لن ينبت من فراغ .. إنّه يُشرق في سطور القرآن الكريم، وفي كلمات المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي كثير من الشعر العربي منذ فجر الدعوة الإسلامية وحتى يومنا هذا ، وفي النثر وفي كتابات الوعاظ وقصصهم، وغيرهم نرى الالتزام والارتباط بقيم الإسلام الخالدة(39).
فالالتزام في الأدب الإسلامي، لايقاس بالمقياس التي وضعتها المذاهب المادية الأخرى؛ بل لابد وأن ينبع الالتزام من العقيدة أولاً، ومن شرع الله عمومًا .
والأدب الإسلامي مُطالِب بأن يخط لنفسه خطأ ملتزماً متميزًا ، وأن لايخضع إلى ما تعارفت عليه المذاهب والمدارس الأخرى ؛ لأنه سيترك حينئذٍ منافذ خطرة تفجره عناصره من الداخل، وتقتل روحه قبل أن ينهض من جديد . فإنه التزام بالإسلام، والتزام بالكلمة، والتزام بالعقيدة، والتزام بالسلوك(40).
وخلاصة القول هي، أن الأدب الإسلامي أدب يلتزم بقِيَم ربانية ويدعو إليها ويبشر بها .
إن الطريق لم يزل طويلاً، والنجاحُ آتٍ إن شاء الله ؛ لأن مجتمعاتنا الإسلامية لا يمكن أن يترجم عنها بصدق إلا أدب إسلامي ، وهي بدورها لا تُفرز فنًا إلا إذا صور عواطفها ومشاعرها وآمالها وواقعها ، هذا هو المنطق ، وهذا هو الحق ، وما عداه زيف وضلال(41).
* * *